تجاوزت لمسات الشهيد الشيخ أحمد ياسين الزعيم المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية حماس الجوانب السياسية للقضية الفلسطينية التي وهب لها حياته، فقد ترك بصمات واضحة المعالم في كافة مناحي الحياة الفلسطينية، حيث شكّل استشهاده صباح الإثنين 22-3-2004 إثر قصف صاروخي من قبل الطائرات الإسرائيلية فاجعة كبرى للعالمين العربي والإسلامي، الأمر الذي ظهر جليا في المظاهرات العفوية والغاضبة والسريعة التي انطلقت في أرجاء العالم تنديدا بجريمة اغتياله.
في هذه السطور القليلة، نحاول تسليط الضوء على حياة الشيخ ياسين الاجتماعية من خلال شهادات أسرته، محاولين رصد مشاعر بناته وزوجه وأقاربه الذين عايشوه عن قرب، وتحملوا جزءا من أعباء الأنشطة الدعوية والجهادية معه، فحياتهم كانت معرضة للخطر في حال أقدمت طائرات الاحتلال على قصف منزل الشيخ ياسين، كما فعلت سابقا عندما قصفت منزل الدكتور محمود الزهار القيادي في حركة حماس؛ ما أدى إلى استشهاد نجله ومرافقه، فضلا عن إصابته وإصابة زوجته وكريمته.
الأب الحنون
مريم أحمد ياسين، إحدى كريمات الشهيد الشيخ ياسين الثمانية، نعت والدها بقولها: "هو الرمز للشعب الفلسطيني كله.. هو الأب الحنون الذي منحنا الحنان بلا حدود".
وتابعت: "إن فقده ليس خسارة لنا فحسب بل خسارة للأمة العربية والإسلامية جمعاء، ونحن نعتز به كثيرا؛ لأنه رفع رءوسنا عالية بين الأمم، وهذا شرف عظيم لنا"، وأضافت مريم وقد توشحت بالعصابة الخضراء المزينة بعبارة التوحيد، والمذيلة بتوقيع حركة المقاومة الإسلامية حماس، إلى جانب صورة صغيرة لوالدها الشهيد أحمد ياسين: "كان أبي رحمه الله يتمنى الشهادة منذ زمن طويل، والحمد لله رب العالمين نال ما تمنى، والله نسأل أن نكون ممن يشفع فيهم يوم القيامة".
يوازن بين أهله ودعوته
وتابعت مريم قولها: "رغم انشغال والدي الشيخ الشديد بأمور الحركة والجهاد والدعوة والإصلاح بين الناس، فإنه كان يحسن تنظيم وقته فيمنح أسرته نصيبهم من رفقته وحنانه".
وأضافت: "الحمد لله لقد كان أبي مربيا موفقا في كل شيء مرتبا لمواعيده كلها لا يقصر في أي جانب، وكان يؤدي واجبه على أكمل وجه".
يشار هنا إلى أن الشيخ ياسين رزقه الله بثلاث أبناء وثماني بنات، ست منهن متزوجات واثنتان منهن أرامل بعد أن استشهد زوجاهما بقصف مماثل لما تعرض له الشيخ أحمد ياسين، وهما (هاني أبو العمرين الذي استُشهد برفقة القائد السياسي في حماس إسماعيل أبو شنب، وخميس مشتهى الذي استشهد مع الشيخ ياسين).. كما أن للشيخ 40 حفيدا وحفيدة.
برنامجه اليومي
وعن البرنامج اليومي للشيخ ياسين تتحدث ابنته مريم فتقول: "كان يستيقظ من النوم قبل الفجر، ويتوضأ وبعد أن يؤدي الصلاة في المسجد، يخلد للنوم ثانية؛ نظرا للأمراض المتنوعة التي يعاني منها، وفي الصباح الباكر يتناول فطوره، ثم نأتي إليه ونسلم عليه قبل أن يغادر البيت ليمارس عمله في الاجتماعات واللقاءات الصحفية، وغير ذلك من الأنشطة اليومية.
وتضيف: "بعد الظهر يتناول طعام الغداء، حيث كان ينادي علينا مرة أخرى لنجلس معه، وبعد العصر كان ينشغل كثيرا حتى صلاة المغرب وبعد صلاة المغرب كان يتيح لنا بعض الوقت لرؤيته والجلوس معه، وأحيانا لم نكن نراه بالمطلق؛ نظرا لكثرة الأعباء الملقاة عليه".
وأكدت كريمة الشيخ ياسين أنه رحمه الله كان يحرص على عدم إظهار أية بوادر تعب أو معاناة رغم مرضه وشلله ومشاغله التي لا تنتهي، وقالت: "لم يكن يظهر لنا أي شيء من التعب والعناء، والحمد لله كان مريحا طوال الوقت وعمره ما زعّل أحدا، ووجهه بشوش للجميع".
وحول أكثر الأشياء التي كانت تسعد الشيخ ياسين، أجابت مريم على الفور: رؤية الأطفال، ومضت تقول: "كان يسعد كثيرا عندما كان يرى الأطفال وهم سعداء يضحكون ويمرحون وكان هذا أمرا هاما عنده، وأشد ما كان يغضبه في البيت، كان بكاء الأطفال وصراخهم".
يسخر من التهديدات
وأوضحت "مريم" أن التهديدات الإسرائيلية الأخيرة له بالاغتيال لم تشكل له أي أثر، ولم تؤثر على عمله بل كان راضيا مطمئنا لأمر الله مع أخذه بالأسباب قدر المستطاع فكان ليله ومبيته خارج البيت.
أما "رحمة أحمد ياسين" ابنته وزوجة مرافقه الشخصي محمد أبو حسنين فتقول: "نحن لا نحزن عليه؛ لأنه إن شاء الله في الجنة، فكم تمنى الشهادة بقلب خالص وبكاء في جوف الليل"، وأضافت وقد اغرورقت عيناها بالدمع: "إنه كان لنا كل شيء في حياتنا، لا نستطيع أن نخفي حزننا على هذا الأب الغالي الحنون".
وأضافت رحمة: "رغم أننا كنا في أمس الحاجة إليه، في الظروف التي استشهد بها فإننا نتمنى له الشهادة في سبيل الله، ونحن معه أيضا، لكن الله تعالى اختاره لوحده؛ لأنه أحبه واصطفاه من بيننا".
وتذكر ابنته "رحمة" أن والدها الشيخ كان رغم مشاغله في الحركة والإصلاح بين الناس فإن الجو العائلي لم يخلُ منه أبدا.
وقالت: "كان يجالسنا ويحدثنا ويتسامر بضحكاته التي لا تنسى وحنانه الغامر، وكان حينما يجلس معنا يكون في غاية سعادته والابتسامة لا تفارق وجهة، وإذا شعرت إحدانا بأي نوع من الكبت أو الضيق سرعان ما تذهب إليه فيذهب عنها كل هم وغم وترتسم البسمة على شفتيها على الفور".
وقالت رحمة: "أنا عاجزة تماما عن التعبير لما كان يشكله أبي بالنسبة لنا، ومهما تحدثت عنه لن أوفيه حقه"... وتابعت تقول وقد رفعت أكف الضراعة إلى الله: "حسبي الله ونعم الوكيل" وبدأت عينها بالبكاء.
وأكملت تقول: "في الفترة الأخيرة كنا نطلب منه الاختفاء حرصا على حياته فكان يرد علينا بقول "الرب واحد والعمر واحد".
وقالت رحمة: "شعرت قبل استشهاده بيومين أنه يودعنا من خلال ابتسامته غير الطبيعية لنا فكان ينظر إلينا نظرات حنان زائد، إلى جانب كلماته التي تحث على الصبر والثبات، كأنه قد عرف أن أجله اقترب فيؤكد وصيته".
حتى من مصروف البيت
وأضافت رحمة: "لم يكن أبي الشيخ يتأخر عن مساعدة الناس، ولم يبخل على أحد حتى إن مصروف بيته كان يوزعه على المحتاجين"، وكان يقول: "ربنا يرزق".
واستهلت أم حسام زوجة نجل الشيخ عبد الغني المصاب إثر القصف في عملية الاغتيال التي استهدفت والده، حديثها بتلاوة آيات الجهاد والاستشهاد، وقالت: "نهنئ الأمة العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة بمناسبة استشهاد شيخنا أحمد ياسين، فالحمد لله رب العالمين طلب الشهادة فأعطاه ربه إياها".
وأردفت تقول: الشيخ ياسين كان تاج رءوسنا، شرفنا الله به وباستشهاده. وتذكر زوجة ابنه "أم حسام" مواقف والدها الشيخ مع الأطفال والتي اعتاد يوميا أن يطلب رؤيتهم للاطمئنان عليهم، وعندما كان يمرض أحدهم كان يأتي للاطمئنان عليه.
وقالت: أطفالنا يوما بيوم كانوا يدخلون عليه ويسلمون عليه يقبلهم واحدا تلو الآخر.
وأكملت: بعد خروجه من السجن منذ أكثر من 5 سنوات، ومنذ أن عرفته لم أسمع منه كلمة واحدة تغضبنا، بل ولم يكن يقبل بأي كلمة تجرح مشاعرنا، وكان دائما يتفقدنا ويسألنا عما نريد ويلح على ذلك.
وأضافت زوجة الابن: لم يكن يقبل الشيخ من أزواجنا أن يغضبونا فعندما كان يقع خلاف بيني وبين زوجي مثلا كنت أذهب إليه، وأشتكي فأجده الصدر الحنون.
وفي العيد تذكر أن حماها الشيخ اعتاد ممازحة أحفاده بعد صلاة العيد، وكان يقول لهم: "هذه الملابس جميلة عليك يا سيدي"، وغير ذلك، وكان يتناول الإفطار معنا، ثم يذهب لزيارة بناته وأحبابه.
نسينا أنفسنا معه
وتابعت زوجة ابنه حديثها: قبل أن يستشهد بليلة كنا نسهر معه، حيث اتصل به الشباب وطلبوا منه مغادرة المنزل فرفض ذلك فجاءني زوجي، وأخبرني بأن والده لا يريد الخروج فذهبت له مع زوجات أبنائه الآخرين، وطلبنا منه الخروج حرصا على سلامته فكان يرد علينا ضاحكا: أنتم خائفين علي لماذا؟ تمنوا لي الشهادة، وكان يبتسم ويضحك لدرجة أنه أنسانا الخوف وغرقنا معه في الضحك والابتسام.
وأوضحت أن الشيخ ياسين ليلة استشهاده خرج من البيت بعدما تناول طعام السحور، وقالت: طوال الليل وهو قائم يصلي، يقيم الليل ثم تناول طعام السحور ثم خرج لأداء صلاة الفجر وبعدها تعرض للقصف في يوم الإثنين نسأل الله أن يتقبله في الشهداء.
أما أكبر حفيدات الشيخ ياسين "إيمان" ذات الأربعة عشر عاما فطالبت الفصائل الفلسطينية بسرعة الرد على اغتيال جدها الشيخ أحمد ياسين، وقالت غاضبة: لا يزيدنا ذلك إلا حبا وعشقا للشهادة، وإننا على درب الشيخ لسائرون. وقالت: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقه لمحزونون.
وأضافت: كان دائما يشجعنا على النجاح والتفوق، وكان نعم الأب ونعم الجد.
أما حليمة ياسين زوجة الشيخ أحمد ياسين فاكتفت بجملة: نال ما تمنى، وصدق الله فصدقه الله في أفضل الأوقات لا أذكر منه إلا كل خير.
40 حفيدا
وذكر "أبو همام" زوج "مريم" كريمة الشيخ أحمد ياسين أن للشيخ نحو 40 حفيدا (23 ذكرا و17 أنثى)، وقال: في الحقيقة كان الشيخ مثالا للرجل الذي يتبع تعاليم الإسلام في كل مجالات حياته في أهله وفي أصحابه ومع أخواته إضافة إلى العمل الإسلامي، فلم يكن فقط ذلك السياسي المحنك أو الداعية المخلص أو المجاهد الصلب، كذلك كان الإنسان الذي يمتلك القلب الرحيم والعلاقة الاجتماعية الواسعة.
وأضاف أبو همام: لم يكن الشيخ يدخر أي جهد في التخفيف عن أصهاره والتعامل معهم بروح الإسلام؛ ولذلك نجد أنه مطلقا لا يرهق في المهر ولا غيره، فالكثير من أصهاره كان يسألهم ماذا تستطيع أن تدفع؟ ويمكن أن يكون الشخص المتقدم لابنته غير قادر كما حدث مع صهره "خميس مشتهى" الذي استشهد برفقته حيث قدم له الشيخ مساعدة تفوق المهر الذي قدمه؛ لأنه كان يعلم أن "خميس" كان في وضع اقتصادي صعب.
وأضاف: كذلك عندما يكون هناك ضائقة تمر بأي أحد كان يبادر لمد يد العون فقد قدم "لخميس" أيضا بيتا يسكنه، وكذلك لم يكن يقصر مطلقا في مشاركة الجميع أحزانهم أو أفراحهم بالرغم من مشاغله الكثيرة، فعلى سبيل المثال عندما ناقشت رسالة الماجستير دعوته، وكان عليه أن يمكث من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا، ولم يتوانَ مطلقا وحضر رغم مشاغله الكثيرة التي أعلمها، لكن حتى يدخل السرور على قلوب أصهاره كان يشاركهم أفراحهم وأتراحهم.
وتابع يقول: أذكر عندما ذهبت مع العائلة لفصل الحق كما اعتاد الناس في أمور الزواج فكان موقفه غريبا بالنسبة لي حيث رفض أن يتحدث في هذا الأمر، وقال: لن نجد مشكلة. وحول الجلسة إلى زيارة عادية، ثم بعد ذلك أرسل لي وجلسنا سويا قال: فصل المهر ليس مساومة أريد كذا وتريدون كذا، وسألني قائلا: كم تستطيع أن تقدم؟ فقلت له أستطيع أن أقدم كذا. فقال لي هو المهر، فكانت المسألة بعيدا عن أي نظرة مادية تطبيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقلهن مهرا أكثرهن بركة"، وكان هذا رده في كل أمور الزواج فقد كان يترك للطرف الآخر أن يحدد.
وأضاف: لا شك أن الشيخ كان في حالة استهداف، ولكن كان إيمانه بالله والتحدث الذي كان يتمتع به يجعله يرفض أن يغادر البيت حتى عندما كان يشاع أنه مختبئ وهو في الحقيقة لم يكن مختبئا، وإنما كان في غرفة داخلية في نفس البيت، وكنا نذهب إلى هناك، ولكننا نرى أنه في غرفة نومه أو في غرفة مجاورة حتى عندما كانت أجواء الاستهداف كان البيت متوترا بحكم وجود عدد كبير من الأطفال، فكان الشيخ يقول لهم: إن كنتم تخشون على أنفسكم فاخرجوا، أما أنا فسأبقى هنا.
أما صهر الشيخ "محمد نعمان الزايغ" فيقول: امتاز الشيخ بحب العطاء والبذل والإيثار، وكان يدعو الشباب للعمل والكسب الحلال والتمسك بكتاب الله تعالى وحب الجهاد وكل جماهير الشعب الفلسطيني تعترف بذلك فلم يطرق بابه سائل إلا أعطاه.
وأضاف الزايغ: كنا نستمد منه الأمل عندما نشعر بنوع من اليأس والإحباط فكان يزرع فينا الأمل. وأشار الزايغ إلى أنه كان في زيارة للشيخ أحمد ياسين قبيل استشهاده بسبع ساعات مع عدد من أصهار الشيخ مضيفا: كان الشيخ يسألنا لماذا تأخرنا عليه؟ فهو لا يحتمل تأخيرنا، وكنا نخجل من سؤاله فكان يبدي رحمه الله حبا كبيرا لنا.
وقال الزايغ: إن فلسطين والأمة الإسلامية فقدت عَلَمًا من أعلامها ورمزا من رموزها وأحد قادة العالم الإسلامي، ونحن أصهاره فقدنا الأب والأخ والصديق والأستاذ والموجه والمرشد فنسأل الله أن يعوضنا خيرا منه.